ثُمَّ ذكر المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ المثل المضروب للنقل مع العقل وقد ذكره شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ في درء التعارض (فإن الذين يقولون: نقدم العقل عَلَى النقل حجتهم هي: أن العقل هو الذي دلنا عَلَى صحة النقل، فلولا العقل لم نعرف أن هذا رسول، ولم نعرف أن القُرْآن حق، فالعقل هو أصل النقل، وهو الذي دل عليه، والمجنون لا يكلف، ولا يحتاج إِلَى الحق، ولا يعرف صدق رَسُول من كذبه، ولا يفهم آية من غيرها.
فأراد شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ- أن يزيل هذا اللبس الذي حصل عندهم في علاقة هذا الدليل مع المدلول عليه، فقَالَ: هذا المثل الذي هو للتقريب -وإلا فإنه ليس تشبيهاً من كل جهة- وهو أن مثل العقل مع النقل كالعامي المقلد مع العالم المجتهد، فهذا العامي المقلد كلما أمره العالم بشيء فكر فيه وفهمه، ثُمَّ نفذه هذا هو الدور الحقيقي الذي يجب أن يكون عليه هذا.
وليس في هذا المثل مطابقة من كل وجه؛ لأن هذا العامي المقلد يمكن أن يتعلم فيصير عالماً مجتهداً، بخلاف العقل فإنه لن يصل إِلَى رتبته؛ لأن الوحي أو الغيب لا تصل إليه العقول أبداً، فالعالم العاقل مهما أعمل عقله لن يصبح نبياً ولن يعرف علوم الأَنْبِيَاء أبداً، يقول: فإذا عرف العامي المقلد عالماً، ثُمَّ جَاءَ هذا العامي المقلد ودل عامياً آخر عَلَى هذا العالم، وقال له: خذ منه العلم، وكل شيء يقوله لك الشيخ لا بد أن تعرضه عليَّ، فإما أن أوافق عليه وإما أن أخالفه.
فيقول ذلك العامي الغريب: أنت دللتني عليه عَلَى أساس أنه عالم آخذ منه العلم، وإذا كَانَ الأمر كذلك فأنت العالم! فلماذا تدلني عَلَى الشيخ؟ لا حاجة إذن إِلَى العالم أصلاً، وهذا الذي نقوله لمن يقول: تقدم العقول عند التعارض، فنقول: ما فائدة الوحي إذن إذا كنا سنحكم بآرائنا وعقولنا؟!

يقول المُصنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ-: [فإن المستفتي يجب عليه قبول قول المفتي] أي: يجب عَلَى هذا المستفتي أن يسمع قول المفتي العالم ولا يسمع كلام الذي دله عليه، فلو قال الدال: إن الصواب معي دون المفتي؛ لأني أنا الأصل في علمك بأنه مفتي، فإذا قدمت قوله عَلَى قولي قدحت في الأصل الذي به عرفت أنه مفتي، ولزم من ذلك القدح في فرعه وهو النقل، فيقول له المستفتي الغريب: أنت لما شهدت له بأنه مفتي ودللت عليه شهدت له بوجوب تقليده دونك، ولا أتبعك أنت، فأنت لا تتجاوز قدرك وطورك، فموافقتي لك في هذا العلم المعين لا تستلزم موافقتك في كل مسألة، وخطأك فيما خالفت فيه المفتي الذي هو أعلم منك لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفتي.
أي: نَحْنُ عندما نقول للعقل أيها العقل بما أنك قد دللتنا عَلَى صحة الوحي وعلى صحة النقل، فهذه شهادة منك بأن الوحي هو الذي يرجع إليه، وأن المتَّبع هو الوحي، ولا نهدر قيمة العقل، وخطأك أيها العقل في أمر تخالف فيه الوحي لا يستلزم خطأك في قولك إن الوحي هو الصواب، فهو قد جَاءَ بحق وجاء بباطل، فالحق قوله: إن الوحي هو الصواب، والباطل هو قوله: إن ما جَاءَ به الوحي لابد أن تعرضوه عليَّ لأخبركم ما تأخذون منه وما لا تأخذون.
فنقول: لا يلزم منا هذا، فلا يلزم من صوابك في الدلالة أن نأخذ كلامك دون الوحي، ولا يلزم من خطئك فيما عارضك فيه الوحي أنك مخطئ في دلالتك عَلَى صدق الوحي، وهذا من أحسن الأجوبة والأمثلة التي يتضح بها قيمة عقل الإِنسَان مع ما أنزل الله من الوحي الذي تعبدنا الله تَعَالَى به دون ما سواه.